العزلة قدر أم ضرورة؟
إلى مأمون التلب
الكاتب “الوحيد”
أهدي هذه الخاطرة-“عسى ولعلّ” أنّ يجد الإجابة التي ينتظرها..بين كلماتي..أو ما وراءها.[i]
كنت أفكر بأحد الكتّاب اللذين أراهم من البشر في مرتبة الأنبياء إن جاز التشبيه، وبحثت عن هاتفه بين أكوام الرسائل والملفات التي يكتظ بها بريدي الإلكتروني وبصراحة لم يكن لدي من الوقت أو البال ما يجعلني أواصل البحث، لكن لم يمنعني ذلك من استخدام قوىً عقلية -لا أعرف كيف أتحكم بها بعد لكني أدرك نتائجها من وقت لآخر- فقفز من بين الأكوام عنوان واحد لملف، بدا لي أنّه مما احتاج الآن إذ طال هجري للشعر في خضم الوهم الذي أدعوه ضرورات الحياة..ومشاغـ-/ك-لها التي لا تنتهي. حسناً كان العنوان :”سنامات محتقرة باسم الصحراء”..نعم هو للكاتب الذي كان يستحوذ على تفكيري مؤخراً!!
لم أقرأ الشعر فقط، ولم أتصل بمأمون هاتفياً لكني تحاورت معه من خلال نصّه، وقررت- الكتابة، وهذا القرار- أن أكتب- أصبح من أصعب القرارات على الإطلاق في حياتي في السنوات العشر الأخيرة على الأقل.
وضمن هذا النص استوقفتني عبارة ولم تسمح لي بمواصلة القراءة فطفقت أكتب هذه الخاطرة لأعود بعدها إلى بقية النص، وهأنا أقتبسها هنا لتقفوا معي على الضفة ذاتها قبل أن اواصل الكتابة..
ما الذي يعنيه، حقيقةً، أن يُولَدَ كاتبٌ صَرَعته صور التزييف المريع، في عالمٍ كعالم اليوم؟ ما الذي يعنيه هذا المزاح غير المُستَحب؟ أيجب لذلك أن تكون له أية أهميَّة؟ ألذلك إشارة؟ رسالة ما، مضمون ومعنى؟ هل يعني أن يَنقبر الكاتب وحيداً إلى الأبد؟
في هذا النص ونصوص كثيرة أخرى لم يخف الكاتب مأمون التلب عاطفته الإنسانية تجاه العالم، وقلقه ومخاوفه من الدمار الشامل أو نهاية العالم. واكتئابه مما يرى ويعلم. وشعوره بالعزلة والوحدة والانفصال عن الآخرين في الوقت الذي نعرف جميعاً أنّه شخصية ذات كاريزما فائقة، وله علاقات صداقة وود تربطه بالكثير من الأشخاص من مختلف الأعمار والمشارب والخلفيات، فمن أين يأتي هذا الشعور إن لم يكن من ثقل ووطأة المسئولية الإنسانية التي تفرضها عليه معرفته ورؤياه لهذا العالم وهو في طريقه للتحطم على صخرة عملاقة قاسية؟ ومن الواضح أيضاً أنّ الرعب الذي يبدو في نصوصه ليس من الفناء نفسه، فهو جزء من ديناميكية العالم وحقيقية تأريخية كونية لا مفر منها، لكنّه خوف من العنف الإنساني المتبادل، ومن تدمير البشرية لنفسها، بدلاً عن إسعادها..رعب من خيارات غير موفقة تؤدي بالإنسان إلى الانحياز للشر، والاتجاه إلى التسبب في الأذى والضرر والقتل والتدمير والإعدام والإقصاء والاغتيال انتهاءً بمسح الجنس البشري كليةً من على وجه الأرض وسجلات هذا العالم.
هذه النتيجة المرعبة فعلاً والكفيلة بإصابة كل القلوب السليمة بالغم والهم كما لم تصب من قبل. وهاهو يصرخ متألما ومحذّراً جهد إيمانه من هذه النهاية “عسى ولعل” أنّ يستطيع صنع تيار معاكس ينحاز للسلم والخير والرفاهية والحياة بدلاً عن الموت والشقاء والتعاسة والشر، وفي داخله أمل بأنّ الخير سينتصر في النهاية، نعم لا يبدو الأمل كبيراً في هذه النصوص لكنّه أمام عيني قلبي كبير جداً إلى حد أن يعطيه الشجاعة لمواجهة الحركة العدمية واللامبالاة والتفرج على العالم وهو ينهار، ينهار من جميع الأركان والزوايا في الوقت ذاته. إنّها صرخة للإنقاذ والنجدة نعم ونحن نشرف على النهاية ولكنها في ذات الوقت قد تكفي لتغيير هذه النهاية. إنّه الأمل والإيمان بإمكانية الإنقاذ في آخر لحظة.
ربما لم أكن أقرأ كثيراً منذ سنوات، لكنني أقرأ بسرعة، وأقرأ بعاطفية وتفاعل شديدين، فأحوّل كل المعلومات والأرقام والنتائج والأبحاث والدراسات والنقد والنصوص إلى محفزات لشتى أنواع العواطف والمشاعر والحالات الشخصية. لكن كتابات مأمون وبعض الكتّاب القلائل مثل هشام بلال ومحمد مدني ومحمد السويدي[ii] ومجموعة صغيرة من الكتاب في صحيفة البعيد الإلكترونية كانت قريبة دائماً..إلى العين والقلب. وقد لمست فيها ذات الهواجس والإرهاصات بنهاية العالم الممعنة في تراجيديتها كما تبدو لهؤلاء المتنبئين، الذين كشفت بصائرهم ونفوسهم العبقرية بجلاء الحجب الفاصلة بين البشر وبين صورة النهاية الوشيكة على الأفق. وهاهو محمد مدني ضمن مجموعة فريدة من الأدباء يفتحون للعرب أبواباً جديدة للثقافة والكتابة وحرية التعبير في تركيا عبر دار توتيل للنشر.
إنّها ذات الصورة التي تدفع المؤرخين في كل العصور إلى تسجيل وتدوين ما استطاعوا من أخبارهم وسيرهم وأحداثهم حتى تشهد على عصرهم هذا إن كان لهذه المدونات وغيرها من المنتوج الفكري البشري أن يصمد أمام الطوفان القادم.
إنّه دور
الكاتب بكل ما يكتبه، أن يشير إلى الجرح ويوميء إلى البلسم، مستعيناً برؤيته
الثاقبة وبصيرته النافذة وروحه الشفيفة التي لا يحجبها عن حقائق العالم وجواهرها
شيء. لهذا كان القلم من ضرورات جميع الحضارات الإنسانية وكانت الكتابة من الأدوات
المهمة التي لولاها لما تعلّم إنسان الكهوف الرسم، إنّي لا أتخيل العالم دون كتابة
أو كتّاب..
[i] وردت عبارة: “أنتظر كلمة واحدة ولكن لا من مجيب.” في القسم المرقم (7) من نصّه: سنامات محتقرة باسم الصحراء..فبراير2015.
[ii] شاعر وأديب ورائد من رواد النهضة الثقافية العربية من خلال مشاريع ثقافية وتوثيقية متعددة منها مجمع أبوظبي الثقافي والقرية الإلكترونية، وموسوعة الشعر العربي وغيرها.
Leave a reply
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.