ثقوب ملونة في مقام الشعر والشعراء
نشرت في البعيد الإلكترونية
للكتابة فخاخ هي أشبه بالثقوب الملوَّنة، فكما يصور لي خيالي الثقوب السوداء كملتهماتٍ لما يعبرها إلى المجهول مباشرة، أتصور فخاخ الكتابة كثقوبٍ بألوانٍ أخرى، قد تعيدك إلى مربع البداية، أو تأخذك إلى مناطق أخرى تبتعد أو تقترب من ناحية المضمون أو الشكل ما شاءت، وإن أعيتك معها الحيل رميت بدائها على شجون الحديث وانسللت دون أن يبررك ضميرك.
وأنا إذ أذكرها –هنا- لا أتقمص بهجتي القديمة بمداعباتها، ومناكفاتها، وعندئذٍ تصبح محاولة الإمساك بخيط السرد جولة استثنائية للقبض على “ود الموية” الذي برع في اصطياده كل شاعر ٍ لم يخالط الشعر دمه فحسب، بل ثنايا روحه أيضاً، قبل أن يفيض في زفراته وأشجانه وذكرياته وابتساماته. للشاعر كاريزما خاصة يطل بها من برجه الروحي على العالم من خلال كل الثقوب الملوَّنة التي يمتليء بها عالمه الخاص، فتكتسب نظرته إليه أبعاداً – صدقوني- لا يُحص لها عدداً.
الشاعرية كما اختبرتها
شخصية الشاعر التي أعرفها من خلال احتكاكي بشخصيات كثيرة قديمة وحديثة بمعظم لغات العالم هي ذاتها من أكثر الأمور تعقيداً، والتي لم أخالني يوماً سأحاول التعرض إليها ذكراً أو تحديداً ولو بمفهومها الخاص بي تماماً. أول شخصية أتعرف عليها في هذا المجال كانت طفلة ربما في السابعة أو السادسة من العمر. على الرغم من أنّ أول كلماتها الموثقة التي نمّت عن شاعرية واضحة لمن حولها تعود بالتأريخ إلى عامها الثامن. وكان الموضوع أيضاً شاعريٌ. فكيف يكتب إنسان لم يكمل عامه الثامن عن الحزن الذي عاشه لموت شخص قريب، شخص قريب روحياً، مثل مديرة مدرستها إن لم يصدف أنّها ذات شخصية شاعرية. ثم ازدحم على أبواب القلب الشعراء من كل حدب وصوب.
وأنا أكتب عن تلك الطفلة التي أحمل بعض روحها الآن، عرفت أن الشعر ليس هو جمال اللغة، ولا اختيار التعابير الفخمة، والكلمات الرنانة، والعروض والقوافي. وليس كذلك في كل ما هو مصنف من أعمال الشعر منذ أيام مفروش العرب في مكة وحتى مفروش أتينيه بل وبعد أن لحق الآخر بالأول. وهي تصنيفات ربما لم يكن يتحقق نصاب الشعر في من اجتمعوا على صياغتها. إنما هي تلك “الخفة التي لا تحتمل” كما قال كونديرا، وتلك الشفافية والرقة والتماهي الكبير مع العالم، والحساسية الفائقة التي تجعلك تدرك مشاعر الصخر الأصم، وتفهم فرحة الطائر من غناءه وتستشف محنته وذعره. تلك الصلة الخفية بينه وبين كل عناصر الوجود، والتسامح الكبير، والتفهم، والصدق والعدالة والمحبة. لقد علمت باكراً إنّ المحبة تنبع من حيث ينبع الخير في الإنسان، وإن الأشرار لا يستطيعونها، مثلما لا يشوب دواخل الشاعر الشر ولا يأتيه من أمامه ولا من خلفه.
الشعر حالة كونية
فالشعر هو عندي خاصية في الروح الشاعرة، وهو حالة أبدية ترتبط بالشاعر حال الحياة وبعد الممات كما ارتبطت به منذ الأزل في الحيوات السابقة ولا فكاك منها في الحيوات اللاحقة. وإني أعتقد أن التغيير في هذا العالم إن جاء بصورته الإنسانية المثالية لهو تغيير شاعري لا محالة. ليس تحيزاً مني للشعر والشعراء، لكن فعلا الشعر ظاهرة كونية، وعندما ينبع التغيير من حالة شعرية ما فهو يكون في أشد حالاته تسامحاً مع العالم، وأكثر نجاحاً في تحقيق تقبل بل احتفاء قد يصل إلى درجة الكمال. ربما لا أقول جديداً لكني أقول ما أعرف، الأثر الذي يتركه الشعر في النفس لا بد أنه جوهري ويعرف كيف يصل إلى قلب القلب دون مقاومة تذكر، وهي الحالة الوحيدة التي يفتح فيها العالم ذراعيه للتغير..صدقوني ليس ما يتلبسني هو غرور الشاعر بل هي المعرفة بالشعر، إنه الشعر الذي يحرك أعتى المحاربين وأصلب الثوار، إنه أداة لم تستهن بها أية ثقافة إنسانية منذ بدء الخليفة.
الشاعر ما بين سيف المتنبيء وبندقية محمد مدني/درويش
نعم شارك الشعراء في الحروب باعتبارها أحد جوانب الحياة الاجتماعية حتى قبل أن تظهر الحياة الاقتصادية والسياسية، فقد عرفت الإنسانية الحروب باردةً وحارقة منذ بداية الخليفة. وحرب التفاحة الشهيرة التي جمعت بين ثلاثة لم يتحالف أي اثنان منهم قبل الحرب أو حتى بعدها. بل كان عداءً ثلاثياً ممعناً في جديته. وربما ما زالت هذه الحرب تدور إلى أن يشاء لها الله. فالشخصية الشاعرية في رأيي المتواضع لا تنتقص منها المشاركة في أي حرب أو أخرى فالحرب هي توأم الإنسان. موجودة سواءً أأعلنت عن نفسها أو استترت بشتى الأشكال ومتنوع الطرائق. حتى ونحن في حالتنا الفردية نادراً ما نصل إلى سلام النفس، وإن حققناه لن يكون إلا ثمرة نضال وأي نضال! إذن فمن الشعراء من يحترف النضال ولكن لا أعتقد أن العكس يحدث. وربما هذا هو ما كان يشير إليه الكاتب مأمون التلب في مقاله المذكور، في مقام “شعر” أحد الساسة المحاربين، والذي لا أذكر أني قرأت له شيئاً فيما سبق، ربما تقصيراً مني، امتد لسنوات ابتعدت فيها عن القراءة في خضم حرب أخرى لإيجاد وقت خاص لممارسة الهوايات “بمزاج رائق”، لم أخرج منها منتصرة حتى الآن ولكن الحرب لم تنته بعد.
من يريد الثور في مستودع الخزف يا مأمون؟
في مقالة الكاتب مأمون التلب حول شعر بندقية أحد الساسة– والذي للأسف لم أتعثر به أثناء تهويماتي الإسفيرية بين الفينة والأخرى، صفعتني كل عبارة من عبارات هذه الفقرة بشدة والخط العريض مني:
” ونحن نعلم أنّ من الذين يخوضون الحرب لا يمكنهم أن يستوعبو- بل لا يجب عليهم أصلاً ولا جناح – طرق الحرب الأخرى، والكتابة واحد(ة) من أهم تلك الأسلحة وأقواها، أو كما قال الرفيق ياسر عرمان الكلمة أقوى من البندقية (يعني قالها بلسانه لكنه لا يصدقها بقلبه ولا بعقله، مجرّد ترّهات تُقال هكذا. والدليل نجده في ثِمَاره. ففي واحدة من مشاغباتي على فيسبوك، التي تسبق غالباً كتاباتي عن موضوعٍ معيّن، بدأتُ المقاومة العلنيَّة لشعر البندقيّة المقدّس تَبَع الأستاذ ياسر عرمان، لأن ما يُحدثه من تخريبٍ في طريقةِ تذوّق الشعر يشبه التزييف الفكري الذي تَحَدَّث عنه قصي همرور ومعتصم الأقرع على ذات البوست. سأعود لذلك، ولكن لنرَ ثمار الشاعر ياسر عرمان، الذي يؤمن بقوّة الكلمة، والذي لن نحسبه سيزايد علينا في حقل نضال الكلمة الذي قَفَزَ عليه ببندقيّته وأصبح كما (الثور في مستودع خَزف(. “
حسناً لقد كانت العبارات صادمة جداً ولها دلالاتها العميقة جداً عن الحالة الشعورية لمأمون وقت كتابة المقال والشيء الذي علمني درساً أن أخضع ما كتبته تحت تأثير الاستفزاز مهما كان مصدره لمراجعة دقيقة، فالاستفزاز والغضب والحنق والغيظ والانطباعات كلها حالات مؤقتة، لكنها محفزات جيدة للكتابة. فإن كنا أصحاب مدرسة إنسانية محددة وأسلوب معين فلا جناح أن نكتب دون مراجعة، لأن ذلك يضمن لنا حداً معقولاً من ضبط النفس، وما أدراكم يا إخوتي ما ضبط النفس. الحمد لله أنني لم أتعرض لاستفزاز أعلن معه حرباً على أحد بعد – و لا داعٍ لئن تقلقوا عليّ فلن يسوء الأمر إذ أنّ الشخص بتقدم العمر يصبح أكثر حكمة وأقل استجابة للمحفزات السلبية، بل -وبقدرة قادر- قد تتحول تلك العوامل الاستفزازية التي كانت تشعل إوار الغضب وإخوته، إلى أخرى تشعل جذوة الإبداع والفكر والرأي والتسامح والقبول والفهم والتفهم. ربما أحد النماذج المثالية- على كثرتها- هو الأستاذ محمد مدني الذي أعتبره أيضاً خير مثال للشاعر المناضل. والذي ربما كانت بندقيته في شهرة بندقية درويش. أما في مقام إنسانيته فحدث ولا حرج.
حسناً ما صدمني في كتابة مأمون هو فهمي القاصر لمقولته التي اعتقدت أنها جاءت في صيغة تعميم، لأنّ الشعراء الذين ناضلوا بالكلمة والبندقية كانوا كثيرين، استدرك مأمون لاحقاً هذا الشيء وهو يستحضر مذكرات المناضل العالمي تشي جيفارا، أما أنا فسأذكر شاعرنا العظيم محمد محمود الشيخ إبن “حلحل” و”مدني”، الذي يستحق أن نوثق لكتاباته النضالية أيام مشاركته في حرب الاستقلال الارترية، وفي صفوف جبهة الشعبية الارترية والذي أتمسك بسودانيته بكل ما أوتيت من إيمان، مع حفظ كل الود والإعتزاز بأريتريته التي تضمن له نصيباً في حبي لكل ما هو أرتري أصيل، طبعا استمد شرعية دعوتي هذه من حبكم العظيم لرائعته التي تغنيها عقد الجلاد بحبٍ وإجلال لشاعرها، وإني فعلاً أشاركه البوح الآن، و”أحتاج دوزنةً”. وأترك لكم متعة البحث بأنفسكم عما كتب هذا الشاعر، وسأكون محظوظة لو استطاعت دعوتي هذه استنطاق الأقلام الرفيعة التي تشرفني بقراءة هذه السطور الآن. وأحلم جداً بأقلام بعينها، لن أسميها لكن سأشير إليها إن صدق حدسي أو خاب في مقال قادم للمتابعة.
ثقوبٌ ملونة في مقام الشعر والشعراء
حسناً التجربة خير برهان هل عرفتم الآن ما أعنيه بالثقوب الملوَّنة؟ ولعل من الطريف والخطير أن أقول أنني رغم كتاباتي الكثيرة في التسعينات لم أحظ بنشر ما أكتب، وقد نشرت القليل جداً منه، لكني كنت أقرأ على بعض الأصدقاء والأقارب، كان الأستاذ المحترم الصادق الرضي من أوائل قرائي وكذلك الأستاذ عاطف خيري الذي كان شعره يجر شعري جراً من منابعه إلى حيث المصبات الأبدية وتنهمر عند قراءة شعره الأشعار حتى أوقفها قسراً.
صدقوني لا أكذبكم حرفاً ولا أتباهي – ما زال الشعر وكل شكل إبداعي في مقدمة مصادر الإلهام بالنسبة لي. وهذه الكتابة الآن هي من وحي مناقشة على حائط الأستاذ الصادق الرضي الذي استضافها بكل أريحية وطيب صدر، على الرغم من مرارةٍ في بعض أجزائها. وما أردت أن أقوله الآن أنني كنت إن أردت نسخ قصيدة ما لأعطيها لأحد الأصدقاء، كنت أغير فيها، ليس تغييراً طفيفاً هنا أو هناك لإصلاح خطأ في النحو أو الصرف أو استبدال لفظ بآخر أكثر اتساقاً مع الفكرة والإيقاع، لكن ربما نشأ نص كامل وقد حدث هذا بالفعل. فقد كان كل ما يتطلبه مني العمل الشعري أن أمسك بالقلم، وقد كنت أخشى الإمساك بالقلم لأني قد لا أتوقف أبداً وأضطر في النهاية إلى إجبار القصيدة على الانتهاء. هذا الشيء نفسه هو ما يجعلني الآن أكتب في اتجاه مختلف تماماً عما كنت أنويه. نعم أعرف ما أريد أن أقول. لكن الأحاديث ذات شجون يا إخوتي..
فلنعد مرة أخرى إلى مقال الأستاذ مأمون عن الشعر والبندقية..وأذكره فقط بأن المتنبيء كان يكتب الشعر بطريقة عجيبة جداً، ومختلفة جداً، وهو الذي كان أيضاً فارساً وسياسياً محنكاً وذو طموح واضح وملحاح، ولم يسلبه هذا الشيء ولا هجاءه الشاعرية والحساسية والخيال الجامح الذي ظهر في شعره في مختلف مراحله منذ طفولته وحتى الكهولة، ويكفي أنه أيضاً ثار على ماهو متعارف عليه في الشعر فقد كتب النسيب وهو ليس بعاشقٍ ولم يتغزل في النساء بقدر تغزله في الإمارة والحكم والأمراء والحكام. لكنه يظل هو المتنبيء ربما أشعر شعراء عصره على الإطلاق بحسب تقديري القاصر والشخصي جداً.
عود على ذي بدء
وفي مقام الشاعرية ونسبتها إلى شخص دون آخر، في الحقيقة الشاعرية كما أعرفها وكما تحدثت عنها آنفاً، في مفهومي لا تقتصر على الشعر، وأذكر أنني في فترة ما من صباي كنت أعمل في صيانة أجهزة الحواسيب، وقد كنت أعمل لساعات طويلة في شركة ما في وسط الخرطوم، وأثناء هذا الوقت كنت أكتب لماماً، وانخفض معدل الكتابة كثيراً لأني كنت أرضى عن نفسي، وأشعر بشيء من الراحة يشبه الوقت الذي يعقب إكمال كتابة نص ما، كنت أشعر بشيء يشبه بالضبط ما أشعر به عقب كتابة الشعر من راحة ورضا عندما أعيد قرصاً صلباً إلى الحياة. في أوقات أخرى تعددت الأشياء التي عدِلَت في متعة إنجازها كتابة الشعر. ولكن صدقوني ما زال مكانه خالياً في نفسي وما زلت احتاج لكتابته.
لقد تحدثت عن نفسي أكثر مما تحدثت عن رأيي في ما كتب أستاذنا مأمون بحق الشعر والشعراء، ربما لأن هذا ما أعرفه أكثر من أي شيء آخر، وكتابة الإنسان أو تعبيره بمختلف الطرق الإبداعية وغيرها، عندما تتناول ما يعرف تماما تكون أقدر من غيرها على الوصول إلى هدفها.
ثقوبٌ متربصةٌ
ألا تصدقونني الآن؟ لقد انجرفت مرة أخرى عبر ثقب ذو لون أبيض ناصع، سأعود وأقول إنَّ سطوة الشعر على النفوس وجماله لذات غوايةٍ لا يختلف عليها اثنان، وهي حلمٌ يتطلع إليه أصحاب النفوس الرقيقة والمشاعر المرهفة، فيحاولون جهدهم التشبه بالشعراء وفي ظنّهم البريء أنّ الشعر هو ذلك الكلام المقفى الموزون، أو النثر الذي يزدان بعبارات جميلة وألفاظ راقية، وصور خيالية بديعة وغريبة ومختلفة عما عهدوه بل وربما متناقضة أو حتى بسيطة كل البساطة بحسب ظن من يحاول اكتساب صفة الشاعر. وربما كان شاعر فعلاً ولكنه لم يمتلك أدوات التعبير بالشعر، وربما إن حاول تقصي تلك الإشارات لأصبح تشكيلياً أو موسيقياً أو روائياً أو مصوراً فوتوغرافياً أو مولعاً بتوثيق ذلك كله مثل صديقنا المرهف حد الإدهاش والإبداع عبد الوهاب تاج الدين، الذي يوثق لكل ما هو فني أو ثقافي سوداني في نكران ذات يصل إلى حد الشعرية وحده هكذا دون ثانٍ.
أما مهاجمة من يدَّعون الشعر بهدف الغيرة عليه، ومهاجمة من يكتبون المقالات بدافع غيرة منهم، فهي أشياء لا أقف معها لكني لا أريد أن أمنعها إذ لا سلطة لي تخولني لفعل ذلك، ولطالما حلمت بفضاء يتمكن من خلاله الجميع التعبير عن أنفسهم بصدق، ومن حق أي شخص”هبشه طرف سوط” أن يدافع عن نفسه مستنداً على الحجة والمنطق والود الذي أكاد أتأكد من وجوده في قلوب الكتاب لبعضهم البعض، وأحضهم عليه، فجميعنا نشترك في حلم واحد هو الثقافة وللجميع..
Leave a reply
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.